كتبه دكتور صادق العزم ، أستاذ الفلسفة الأوروبية الحديثة بقسم الفلسفة و علم الإجتماع بجامعة دمشق بسوريا ، و نُشر فى يونيو 2000 بالعدد الخامس من المنشور الخاص بالمعهد الدولى للدراسات الإسلامية فى العالم الحديث .
كما نعرف جميعاً ، فإن إمتلاك المستقبل دائماً ما يكون رهناً بقوة البصيرة و القدرة على تخمينه ، و التى بدورها تعتمد على مدى الفطنة . بماذا تخبرنى فطتنى إذاً عن الموضوع الذى نحن بصدد مناقشته ؟ تخبرنى بأن عرب العصر الحديث هم فعلاً نسخة القرن العشرين من شخصية الأمير ” هاملت ” فى رائعة شكسبير . مثلما كان الأمير ، يبدو أن العرب قادرين على الجمع بين الإعتزاز بقوميتهم ، و عقليتهم المستغرقة فى الأزمات ، و حساسيتهم الشديدة ، لينتهوا إلى مأساة طويلة لا تنتهى . تتكون هذه الماساة من حالة لا تنتهى من التردد و التسويفات و التذبذب بين القديم و الجديد ، بين الأصالة و المعاصرة ، بين التراث و التجديد ، بين الهوية و الحداثة ، بين الأديان و العلمانية .
لهذا ، لا يمكن أن ينتمى القرن الواحد و العشرين إلا إلى نسخة عالمنا من شخصية فورتينبراس الغازى – الذى ذهب يحضر الجيوش لإستعادة شرف أبيه أثناء غرق هاملت فى الحزن على مصيره – و لا يكن أن يكون المستقبل ملكاً لهاملت العالق فى دوامة لا نهاية لها من الجدل الأوروبى الكلاسيكى ” صراع القدامى و المعاصرين ” الذى عفى عليه الزمن . لا عجب إذن إن إقتبسنا من الدراما الأشهر لشكسبير تعبيره بأن الوقت غير مناسب أبداً للعرب ، و أن هناك شيئاً خاطئاً فى بلادهم . ولا عجب أيضاً إن أستمر العرب فى التساؤل كهاملت عما إذا كانوا هم المسئولين عن بلاياهم أم أن القوة الألهية هى التى قررت مصيرهم .
يؤدى بى هذا التشابه بين هاملت و الشخصية العربية الحديثة إلى محاولة الغوص داخل أنفسنا ، و محاولة التفكير فى اننا كى نمتلك مستقبلنا و نعتبر أنفسنا مسئولين عنه ، يجب ان نصل إلى حقيقة أنفسنا المدفونة بعيداً فى عقلنا الباطن . ما أقصده هو التالى : أننا كعرب و مسلمين ما زلنا مستمرين فى تصور و تخيل أنفسنا فى صورة الغزاة و صناع التاريخ ، و رواد الحضارة ، و قادة العالم ، و أننا نحن من يتحكم فى النمط الذى تسير به الأحداث .
التوفيق بين الحقيقة و صورتنا الذهنية عن أنفسنا..
بداخلنا ، مازلنا نرى أنفسنا كفاعلين فى التاريخ و ليس مجرد مفعول به ، أطباؤه و ليس مرضاه . لم نصل بعد إلى حقيقة هامشية وضعنا فى العالم الحالى و أننا مجرد رد فعل . فى الحقيقة فإننا – فى لاوعينا الجمعى – غير قادرين على تقبل بشاعة حقيقة أن أمتنا تقف الآن بلا حول ولا قوة على هامش التاريخ المعاصر ، و ليس فقط تاريخ العالم عموماً و لكن ايضاً تاريخنا الخاص .
لا نستطيع أيضاً تقبل حقيقة أننا الآن لا نتعدى مفعولاً به فى تاريخ يتم صناعته ، يتم قيادتنا و التحكم فينا ببراعة و الفصل فى نزاعاتنا من قبل آخرين ، و خاصة حين نتذكر أن هؤلاء الأخرين كانوا ( و يجب أن يكونوا كما هو مقدر لهم طبقاً لما نعتقد ) هم هدفاً فى تاريخاً نحن نصنعه ، يتم قيادتهم و التحكم فيهم من قبلنا . أضف إلى ذلك معتقداً لا يتزعزع لدينا أن هذا الموضع فى قيادة التاريخ و أمجاده تم إغتصابه بطريقة ما منا من قبل أوروبا ، ” فى غفلة من التاريخ ” كما نقول . و أقول تم إغتصابه لأننا – كهاملت فى محنه و تجاربه – نعتقد خطئاً أن هذا الموضع ملكنا بالطبيعة ، من حقنا ، قرره القدر و المصير لنا ، و إختاره لنا الله .
يصاحب هذا المعتقد معتقداً أخر لا يقل عنه ثباتاً لدينا ، أنه فى النهاية ينبغى أن تصحح الأمور نفسها بعزل هؤلاء المغتصبين من السلطة التاريخية و العالمية ، الذين شارف وقتهم على الإنتهاء على أى حال ، و إعادة قادة التاريخ الحقيقيين و الشرعيين إلى مكانهم الصحيح سابقاً ، و وظيفتهم الطبيعية التى خلقوا من أجلها .
هذه الطريقة فى التفكير و الحنين إلى الماضى تظهر جلية فى أعمال مؤلفين كثر مثل المصرى حسن حنفى ، و أخر أعمال أنور عبد الملك ، و أيضاً فى أثار و تحليلات و دعايا المفكرين و المنظرين الإسلاميين .
يمكن تلخيص المنظومة الفكرية التى يرتكز عليها هؤلاء المفكرون فى عنوان الكلاسيكية الأوروبية الشهيرة لسبنجلر : إنحدار الغرب ، حيث يستنتج هوءلاء المفكرون خطئاً أنه مادام الغرب ينحدر ، فإن العرب و الإسلام فى صعود . أو – كما فى عنوان كتاب المؤلف أنور عبد الملك : ريح الشرق – إن كانت رياح التاريخ قد هجرت أشرعة الغرب ، فإنها بالتأكيد تملاً الآن أشرعة الشرق ، الشرق الذى يعنى بالضرورة العرب و الإسلام . و لو إستخدمنا عنوان الكلاسيكية الإسلامية لمحمد قطب ” جاهلية القرن العشرين ” ، فسوف تكون الصورة هو كيف أن الحداثة الأوروبية قد وصلت إلى حالة الجاهلية كما كانت من قبل ، و أن العرب و المسلمين الآن على وشك قيادة البشرية مرة ثانية لإنتشالها من براثن الجاهلية التى خلقتها أوروبا و يحميها الغرب عموماً .
القومية العربية : إستعادة الدور المغتصب فى قيادة العالم..!
و لكن هذا ليس مجمل المشكلة . بالنظر إلى القومية العربية ، يبدو الآن أن الهدف الأساسى من وراءها لم يكن الوحدة العربية كغرض نهائى ، و لكن كوسيلة لإستعادة هذا الدور المغتصب فى قيادة العالم و صناعة التاريخ . فى الحقيقة ، يمكننى القول بأن الغرض النهائى هنا لم يكن مقاومة الإستعمار و الإمبريالية و الإحتلال الأجنبى ، و التحرير و الإستقلال و الرخاء و العدالة الإجتماعية و الحرية ، و لكن إستعادة هذا ” الحق ” المغتصب من هذه الأمة العظيمة لتمارس دورها التاريخى و العالمى و تعمل فى المهمة التى تناسب طبيعتها . ففى النهاية ، كل الحضارات التاريخية فى جهتنا من العالم كانت دائماً متعلقة بالغزو و التوسع : فارس تتجه إلى اليونان ، الإسكندر يغزو فارس و كل ما تصل إليه يده ، حنبعل ، روما ، الإسلام ، العثمانيين ، الحداثة الأوروبية ، و هكذا .
عندما تصطدم هذه الصورة الذهنية لدينا عن أنفسنا – بقوتها و عدم محاولتنا التحقق منها أصلاً – مع الحقائق الجلية اليومية عن ضعفنا و تخلفنا و استسلامنا كعرب و مسلمين ، و هامشيتنا على مستوى العلاقات الدولية خصوصاً ، عندها يصبح أى شىء ممكناً فى الجانب العربى . و هذا يتضمن أوهامنا الكبرى التى نحاول أن نعوض بها أنفسنا ما فقدناه ، و عقدة النقص الشديدة لدينا ، و التهورات السياسية ، و العنف اليائس الذى لا طائل من وراءه ، و غيرها . من الواضح ، أن كل هذا لا يشكل وصفة ناجحة لإمتلاك الحاضر ولا حتى المستقبل . هى بالأحرى وصفة للتنازل عن مسؤوليتنا فيما يتعلق بالحاضر و المستقبل
التناقض الذى أحاول إيضاحه و الذى ينبغى أن نتقبله و نتفهمه إن أردنا أن يكون لدينا أى مستقبل على الإطلاق يمكن إختزاله فى عنوان كتاب المؤلف و المؤرخ و الدبلوماسى المصرى حسين أحمد أمين ” دليل المسلم الحزين إلى مقتدى السلوك فى القرن العشرين ” . يذكرنا هذا العنوان بكلاسيكية موسى ابن ميمون ” دلالة الحائرين ” ، و هو ما يجعلنا نرى عنوان الكتاب بشكل مختلف ” دليل المسلم الحائر الحزين فيما يتعلق بالسلوك المطلوب فى القرن العشرين ” .
الإنسان العربى المعاصر : حزين ، سوداوى ، حائر ، محبط ؟.
يتصف الإنسان العربى و/ أو المسلم المعاصر بالحزن ، السوداوية ، الحيرة و الإحباط فى رأى أمين ، لأن معتقداته و قناعاته الغريزية ، و صورته الذهنية العميقة و أوهامه التى يعتز بها عن أمته و دينه و ثقافته و حضارته و العناية الإلهية التى تحيط به ، و دوره و وظيفته فى التاريخ الحديث ، كلها تبدو منظومة من الكذب نتيجة للوقائع و الأحداث التى يصطدم بها فى العالم المعاصر فى كل دقيقة من حياته . بالإضافة إلى ذلك ، فإن التحولات الجذرية و الثورات و التضحيات و الخسائر المطلوبة ليخرج بها من هذه الحالة المتناقضة تبدو بالنسبة له لا يمكن تحملها و خارج إمكانه ، و غير مرغوب فيها نتيجة لإحباطه و يأسه . ماذا تبقى له أن يفعل إذن سوى أن يعبر بهذه الحالة الفوضوية من الحزن و الحيرة و اليأس و السوداوية إلى القرن الواحد و العشرين ، حاملاً معه قناعةً ما أنه يوماً ما سيقوم الإله أو القدر أو التاريخ أو حتى نظام العالم نفسه بإسقاط هذا المغتصب و رفع أمته إلى منصبها فى قيادة العالم و التاريخ مرة ثانية . و فى أثناء تلك الحالة العقلية ، يستمر فورتينبراس هذا العالم بإمتلاك الأرض على حساب تخاذله .
الحداثة هى فى الأساس إختراع أوروبى . خلقت أوروبا العالم الحديث بدون إستشارة العرب أو المسلمين أو أى أحد آخر ، و خلقته على حساب العرب و المسلمين أيضاً . لا هرب من حقيقة أن العرب فعلياً تم جرهم و هم يصرخون إلى الحداثة من ناحية ، وفُرِضَت عليهم نتيجة لقوتها و كفاءتها و أدائها من ناحية أخرى
بالفعل تم رد الحملات الصليبية ، و لكن بعثة بونابرت فى مصر و فلسطين لم تفز فى نهاية اليوم فقط ، و لكنها اكتسحت كل ما لم يعد قادراً على الصمود فى جانبنا من البحر المتوسط . هذا الفارق الشاسع بين نتائج الحملات الصليبية و نتائج البعثات الفرنسية فى 1798 يلخص جوهر الحداثة الأوروبية و يضعها أمامنا لنستخلص الدرس ..
فى الحقيقة فإنه يمكن إعتبار أن التدخل الأوروبى العنيف فى المنطقة الإسلامية و العربية قد أحدث فاصلاً بين الوضع الحالى و الماضى لا يمكن مقارنته سوى بالتدخل العربى الإسلامى العنيف فى تاريخ حضارة فارس الساسانية . كما أن تاريخ فارس التالى لذلك التدخل العسكرى لم يعد ممكناً فهمه بدون العرب و المسلمين و ظهورهم على الساحة الفارسية ، فإن تاريخ المنطقة العربية ما بعد بونابرت لا يعنى أى شىء بدون أوروبا و حداثتها و ظهورهما فى الساحة العربية . فى رأيى لا يمكن الهرب من هذه الحقيقة مهما حاولنا صياغة الواقع بطرق مختلفة أو حتى ذكر ذاك التبرير الأعرج بأنه فى النهاية فإن أوروبا قد أستلهمت نهضتها كلها منا : ابن رشد ، و الحضارة الأندلسية ، و العلم العربى و الرياضة و الفلسفة و غيرهم ..
بدون الإعتراف بهذه الحقائق المؤلمة فعلاً و تقبلها و التعامل معها بصدق و مع تناقضاتها و إشكالياتها و توابعها ، لن يمتلك العرب مستقبلهم ، و لن يكونوا مسئولين يوماً عن حاضرهم . بكلمات أخرى : إما أن نبدأ التعامل بشكل عقلانى و صادق مع هذه القناعات و المعتقدات و المشاعر المترسخة فى أذهاننا ، و مع هذه الصور عن أنفسنا التى تضفى القدسية و و الثبات على أوهامنا التى ورثناها ، و مؤسساتنا المهجورة ، و منظومتنا الفكرية المختلة ، و نظام معيشتنا و حكمنا العزيز علينا الذى عفا عليه الزمن ، أو أن فورتينبراس سيفوز فى النهاية و يكون له الحكم الأخير ..
أو كما قال ممدوح عدوان فى نسخته من مسرحية ” هاملت ” التى ظهرت منذ فترة فى دمشق ” حين يصحو الأمير ، سيكون الوقت قد فات ”.
كما نعرف جميعاً ، فإن إمتلاك المستقبل دائماً ما يكون رهناً بقوة البصيرة و القدرة على تخمينه ، و التى بدورها تعتمد على مدى الفطنة . بماذا تخبرنى فطتنى إذاً عن الموضوع الذى نحن بصدد مناقشته ؟ تخبرنى بأن عرب العصر الحديث هم فعلاً نسخة القرن العشرين من شخصية الأمير ” هاملت ” فى رائعة شكسبير . مثلما كان الأمير ، يبدو أن العرب قادرين على الجمع بين الإعتزاز بقوميتهم ، و عقليتهم المستغرقة فى الأزمات ، و حساسيتهم الشديدة ، لينتهوا إلى مأساة طويلة لا تنتهى . تتكون هذه الماساة من حالة لا تنتهى من التردد و التسويفات و التذبذب بين القديم و الجديد ، بين الأصالة و المعاصرة ، بين التراث و التجديد ، بين الهوية و الحداثة ، بين الأديان و العلمانية .
لهذا ، لا يمكن أن ينتمى القرن الواحد و العشرين إلا إلى نسخة عالمنا من شخصية فورتينبراس الغازى – الذى ذهب يحضر الجيوش لإستعادة شرف أبيه أثناء غرق هاملت فى الحزن على مصيره – و لا يكن أن يكون المستقبل ملكاً لهاملت العالق فى دوامة لا نهاية لها من الجدل الأوروبى الكلاسيكى ” صراع القدامى و المعاصرين ” الذى عفى عليه الزمن . لا عجب إذن إن إقتبسنا من الدراما الأشهر لشكسبير تعبيره بأن الوقت غير مناسب أبداً للعرب ، و أن هناك شيئاً خاطئاً فى بلادهم . ولا عجب أيضاً إن أستمر العرب فى التساؤل كهاملت عما إذا كانوا هم المسئولين عن بلاياهم أم أن القوة الألهية هى التى قررت مصيرهم .
يؤدى بى هذا التشابه بين هاملت و الشخصية العربية الحديثة إلى محاولة الغوص داخل أنفسنا ، و محاولة التفكير فى اننا كى نمتلك مستقبلنا و نعتبر أنفسنا مسئولين عنه ، يجب ان نصل إلى حقيقة أنفسنا المدفونة بعيداً فى عقلنا الباطن . ما أقصده هو التالى : أننا كعرب و مسلمين ما زلنا مستمرين فى تصور و تخيل أنفسنا فى صورة الغزاة و صناع التاريخ ، و رواد الحضارة ، و قادة العالم ، و أننا نحن من يتحكم فى النمط الذى تسير به الأحداث .
التوفيق بين الحقيقة و صورتنا الذهنية عن أنفسنا..
بداخلنا ، مازلنا نرى أنفسنا كفاعلين فى التاريخ و ليس مجرد مفعول به ، أطباؤه و ليس مرضاه . لم نصل بعد إلى حقيقة هامشية وضعنا فى العالم الحالى و أننا مجرد رد فعل . فى الحقيقة فإننا – فى لاوعينا الجمعى – غير قادرين على تقبل بشاعة حقيقة أن أمتنا تقف الآن بلا حول ولا قوة على هامش التاريخ المعاصر ، و ليس فقط تاريخ العالم عموماً و لكن ايضاً تاريخنا الخاص .
لا نستطيع أيضاً تقبل حقيقة أننا الآن لا نتعدى مفعولاً به فى تاريخ يتم صناعته ، يتم قيادتنا و التحكم فينا ببراعة و الفصل فى نزاعاتنا من قبل آخرين ، و خاصة حين نتذكر أن هؤلاء الأخرين كانوا ( و يجب أن يكونوا كما هو مقدر لهم طبقاً لما نعتقد ) هم هدفاً فى تاريخاً نحن نصنعه ، يتم قيادتهم و التحكم فيهم من قبلنا . أضف إلى ذلك معتقداً لا يتزعزع لدينا أن هذا الموضع فى قيادة التاريخ و أمجاده تم إغتصابه بطريقة ما منا من قبل أوروبا ، ” فى غفلة من التاريخ ” كما نقول . و أقول تم إغتصابه لأننا – كهاملت فى محنه و تجاربه – نعتقد خطئاً أن هذا الموضع ملكنا بالطبيعة ، من حقنا ، قرره القدر و المصير لنا ، و إختاره لنا الله .
يصاحب هذا المعتقد معتقداً أخر لا يقل عنه ثباتاً لدينا ، أنه فى النهاية ينبغى أن تصحح الأمور نفسها بعزل هؤلاء المغتصبين من السلطة التاريخية و العالمية ، الذين شارف وقتهم على الإنتهاء على أى حال ، و إعادة قادة التاريخ الحقيقيين و الشرعيين إلى مكانهم الصحيح سابقاً ، و وظيفتهم الطبيعية التى خلقوا من أجلها .
هذه الطريقة فى التفكير و الحنين إلى الماضى تظهر جلية فى أعمال مؤلفين كثر مثل المصرى حسن حنفى ، و أخر أعمال أنور عبد الملك ، و أيضاً فى أثار و تحليلات و دعايا المفكرين و المنظرين الإسلاميين .
يمكن تلخيص المنظومة الفكرية التى يرتكز عليها هؤلاء المفكرون فى عنوان الكلاسيكية الأوروبية الشهيرة لسبنجلر : إنحدار الغرب ، حيث يستنتج هوءلاء المفكرون خطئاً أنه مادام الغرب ينحدر ، فإن العرب و الإسلام فى صعود . أو – كما فى عنوان كتاب المؤلف أنور عبد الملك : ريح الشرق – إن كانت رياح التاريخ قد هجرت أشرعة الغرب ، فإنها بالتأكيد تملاً الآن أشرعة الشرق ، الشرق الذى يعنى بالضرورة العرب و الإسلام . و لو إستخدمنا عنوان الكلاسيكية الإسلامية لمحمد قطب ” جاهلية القرن العشرين ” ، فسوف تكون الصورة هو كيف أن الحداثة الأوروبية قد وصلت إلى حالة الجاهلية كما كانت من قبل ، و أن العرب و المسلمين الآن على وشك قيادة البشرية مرة ثانية لإنتشالها من براثن الجاهلية التى خلقتها أوروبا و يحميها الغرب عموماً .
القومية العربية : إستعادة الدور المغتصب فى قيادة العالم..!
و لكن هذا ليس مجمل المشكلة . بالنظر إلى القومية العربية ، يبدو الآن أن الهدف الأساسى من وراءها لم يكن الوحدة العربية كغرض نهائى ، و لكن كوسيلة لإستعادة هذا الدور المغتصب فى قيادة العالم و صناعة التاريخ . فى الحقيقة ، يمكننى القول بأن الغرض النهائى هنا لم يكن مقاومة الإستعمار و الإمبريالية و الإحتلال الأجنبى ، و التحرير و الإستقلال و الرخاء و العدالة الإجتماعية و الحرية ، و لكن إستعادة هذا ” الحق ” المغتصب من هذه الأمة العظيمة لتمارس دورها التاريخى و العالمى و تعمل فى المهمة التى تناسب طبيعتها . ففى النهاية ، كل الحضارات التاريخية فى جهتنا من العالم كانت دائماً متعلقة بالغزو و التوسع : فارس تتجه إلى اليونان ، الإسكندر يغزو فارس و كل ما تصل إليه يده ، حنبعل ، روما ، الإسلام ، العثمانيين ، الحداثة الأوروبية ، و هكذا .
عندما تصطدم هذه الصورة الذهنية لدينا عن أنفسنا – بقوتها و عدم محاولتنا التحقق منها أصلاً – مع الحقائق الجلية اليومية عن ضعفنا و تخلفنا و استسلامنا كعرب و مسلمين ، و هامشيتنا على مستوى العلاقات الدولية خصوصاً ، عندها يصبح أى شىء ممكناً فى الجانب العربى . و هذا يتضمن أوهامنا الكبرى التى نحاول أن نعوض بها أنفسنا ما فقدناه ، و عقدة النقص الشديدة لدينا ، و التهورات السياسية ، و العنف اليائس الذى لا طائل من وراءه ، و غيرها . من الواضح ، أن كل هذا لا يشكل وصفة ناجحة لإمتلاك الحاضر ولا حتى المستقبل . هى بالأحرى وصفة للتنازل عن مسؤوليتنا فيما يتعلق بالحاضر و المستقبل
التناقض الذى أحاول إيضاحه و الذى ينبغى أن نتقبله و نتفهمه إن أردنا أن يكون لدينا أى مستقبل على الإطلاق يمكن إختزاله فى عنوان كتاب المؤلف و المؤرخ و الدبلوماسى المصرى حسين أحمد أمين ” دليل المسلم الحزين إلى مقتدى السلوك فى القرن العشرين ” . يذكرنا هذا العنوان بكلاسيكية موسى ابن ميمون ” دلالة الحائرين ” ، و هو ما يجعلنا نرى عنوان الكتاب بشكل مختلف ” دليل المسلم الحائر الحزين فيما يتعلق بالسلوك المطلوب فى القرن العشرين ” .
الإنسان العربى المعاصر : حزين ، سوداوى ، حائر ، محبط ؟.
يتصف الإنسان العربى و/ أو المسلم المعاصر بالحزن ، السوداوية ، الحيرة و الإحباط فى رأى أمين ، لأن معتقداته و قناعاته الغريزية ، و صورته الذهنية العميقة و أوهامه التى يعتز بها عن أمته و دينه و ثقافته و حضارته و العناية الإلهية التى تحيط به ، و دوره و وظيفته فى التاريخ الحديث ، كلها تبدو منظومة من الكذب نتيجة للوقائع و الأحداث التى يصطدم بها فى العالم المعاصر فى كل دقيقة من حياته . بالإضافة إلى ذلك ، فإن التحولات الجذرية و الثورات و التضحيات و الخسائر المطلوبة ليخرج بها من هذه الحالة المتناقضة تبدو بالنسبة له لا يمكن تحملها و خارج إمكانه ، و غير مرغوب فيها نتيجة لإحباطه و يأسه . ماذا تبقى له أن يفعل إذن سوى أن يعبر بهذه الحالة الفوضوية من الحزن و الحيرة و اليأس و السوداوية إلى القرن الواحد و العشرين ، حاملاً معه قناعةً ما أنه يوماً ما سيقوم الإله أو القدر أو التاريخ أو حتى نظام العالم نفسه بإسقاط هذا المغتصب و رفع أمته إلى منصبها فى قيادة العالم و التاريخ مرة ثانية . و فى أثناء تلك الحالة العقلية ، يستمر فورتينبراس هذا العالم بإمتلاك الأرض على حساب تخاذله .
الحداثة هى فى الأساس إختراع أوروبى . خلقت أوروبا العالم الحديث بدون إستشارة العرب أو المسلمين أو أى أحد آخر ، و خلقته على حساب العرب و المسلمين أيضاً . لا هرب من حقيقة أن العرب فعلياً تم جرهم و هم يصرخون إلى الحداثة من ناحية ، وفُرِضَت عليهم نتيجة لقوتها و كفاءتها و أدائها من ناحية أخرى
بالفعل تم رد الحملات الصليبية ، و لكن بعثة بونابرت فى مصر و فلسطين لم تفز فى نهاية اليوم فقط ، و لكنها اكتسحت كل ما لم يعد قادراً على الصمود فى جانبنا من البحر المتوسط . هذا الفارق الشاسع بين نتائج الحملات الصليبية و نتائج البعثات الفرنسية فى 1798 يلخص جوهر الحداثة الأوروبية و يضعها أمامنا لنستخلص الدرس ..
فى الحقيقة فإنه يمكن إعتبار أن التدخل الأوروبى العنيف فى المنطقة الإسلامية و العربية قد أحدث فاصلاً بين الوضع الحالى و الماضى لا يمكن مقارنته سوى بالتدخل العربى الإسلامى العنيف فى تاريخ حضارة فارس الساسانية . كما أن تاريخ فارس التالى لذلك التدخل العسكرى لم يعد ممكناً فهمه بدون العرب و المسلمين و ظهورهم على الساحة الفارسية ، فإن تاريخ المنطقة العربية ما بعد بونابرت لا يعنى أى شىء بدون أوروبا و حداثتها و ظهورهما فى الساحة العربية . فى رأيى لا يمكن الهرب من هذه الحقيقة مهما حاولنا صياغة الواقع بطرق مختلفة أو حتى ذكر ذاك التبرير الأعرج بأنه فى النهاية فإن أوروبا قد أستلهمت نهضتها كلها منا : ابن رشد ، و الحضارة الأندلسية ، و العلم العربى و الرياضة و الفلسفة و غيرهم ..
بدون الإعتراف بهذه الحقائق المؤلمة فعلاً و تقبلها و التعامل معها بصدق و مع تناقضاتها و إشكالياتها و توابعها ، لن يمتلك العرب مستقبلهم ، و لن يكونوا مسئولين يوماً عن حاضرهم . بكلمات أخرى : إما أن نبدأ التعامل بشكل عقلانى و صادق مع هذه القناعات و المعتقدات و المشاعر المترسخة فى أذهاننا ، و مع هذه الصور عن أنفسنا التى تضفى القدسية و و الثبات على أوهامنا التى ورثناها ، و مؤسساتنا المهجورة ، و منظومتنا الفكرية المختلة ، و نظام معيشتنا و حكمنا العزيز علينا الذى عفا عليه الزمن ، أو أن فورتينبراس سيفوز فى النهاية و يكون له الحكم الأخير ..
أو كما قال ممدوح عدوان فى نسخته من مسرحية ” هاملت ” التى ظهرت منذ فترة فى دمشق ” حين يصحو الأمير ، سيكون الوقت قد فات ”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق